الترجمة كفعل خيانة أم إعادة خلق

منذ أن وُجدت الترجمة، دار حولها جدل طويل.
هل المترجم خائن للنص الأصلي أم خالق له من جديد؟
هذا السؤال القديم لا يزال حياً لأن الترجمة تقع بين حدّين: الأمانة للمعنى والحرية في التعبير.

الخيانة الجميلة

يقول المثل الإيطالي الشهير: الترجمات خائنات جميلات.
الخيانة هنا لا تعني التزوير، بل الاختلاف الضروري بين لغتين وثقافتين.
حين يترجم المترجم قصيدة أو رواية، لا يمكنه نقلها حرفياً.
اللغة ليست مجرد كلمات، بل إيقاع وثقافة ومشاعر.
لذلك، أي ترجمة هي بالضرورة إعادة كتابة وليست نسخاً.

مثلاً، ترجمة شعر محمود درويش إلى الإنجليزية تفقد موسيقاه العربية لكنها تكسب طاقة جديدة في الإيقاع الإنجليزي.
المعنى يبقى، لكن الروح تتبدل.
هنا تبدأ الخيانة الفنية، التي قد تتحول إلى إبداع موازٍ.

الترجمة كولادة ثانية

المترجم الجيد لا يترجم الكلمات، بل يعيد خلق التجربة.
يشبه المخرج السينمائي الذي يعيد تفسير النص المسرحي بلغة الصورة.
لهذا قال الشاعر الفرنسي بول فاليري: كل ترجمة هي عمل جديد في الأدب العالمي.

ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية على يد أنطوان غالان مثلاً، لم تكن نقلاً فقط، بل خلقت صورة جديدة للشرق في أوروبا، وأثرت في الأدب الغربي كله.
لكنها أيضاً غيّرت في بعض القصص لتناسب ذوق القارئ الغربي.
هنا الترجمة كانت خلقاً وخيانة في آن واحد.

بين الأمانة والإبداع

الترجمة الأدبية تختلف عن الترجمة العلمية.
في الأدب، المعنى لا يُقاس بالدقة بل بالأثر.
قد تكون الترجمة أمينة للمعنى لكنها ميتة روحياً.
وقد تكون خائنة في التفاصيل لكنها تنقل روح النص الأصلية.
المترجم الحقيقي يوازن بين هذين الحدّين، فيكون جسرًا لا مرآة.

المترجم ككاتب ثانٍ

كثير من النقاد يعتبرون المترجم شريكاً للمؤلف.
هو يعيد صياغة النص من جديد داخل ثقافة أخرى، فيمنحه حياة ثانية.
من دون الترجمة، ما كنا لنعرف دوستويفسكي أو ماركيز أو كافكا.
وما كان العالم سيقرأ نجيب محفوظ أو الطيب صالح بلغات أخرى.

الترجمة ليست خيانة ولا أمانة مطلقة، بل فعل إبداع يربط بين الشعوب ويكشف إنسانية مشتركة خلف اختلاف اللغات.

سؤال للتفكير
هل تفضل ترجمة دقيقة للمعنى أم ترجمة تحمل روح النص؟

مصادر

  • بول فاليري، تأملات في الأدب والترجمة
  • أنطوان برمان، اختبار الأجنبي
  • لورنس فينوتي، الشفافية والخيانة في الترجمة
  • ترجمات أنطوان غالان لـ ألف ليلة وليلة
  • دراسات عربية عن ترجمة محمود درويش إلى اللغات الأوروبية

اترك تعليقا

زر العودة إلى الأعلى

اشترك في نشرتنا الإخبارية

هل تريد أن تكون على اطلاع بآخر الصيحات؟ اشترك في مدونتنا وكن أول من يتلقى أحدث الأخبار من جميع أنحاء العالم!

Whoops, you're not connected to Mailchimp. You need to enter a valid Mailchimp API key.

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) لتحسين تجربة التصفح الخاصة بك وتقديم محتوى مخصص لك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا، فإنك توافق على سياسة الكوكيز الخاصة بنا.