لماذا نقرأ الأدب؟ في زمن الطوفان الرقمي

مقدمة: هوس المنفعة واغتراب الروح

نحن نعيش في زمن “الهوس بالمنفعة”. كل شيء يُقاس بمعيار الفائدة المباشرة: ما الجدوى من هذه الدورة؟ ما العائد المالي من هذا الكتاب؟ في خضم هذا الطوفان، يُحاصر السؤال عن جدوى الأدب. لماذا نقرأ رواية أو قصيدة لا تعلّمنا مهارة، ولا تزيد من دخولنا، ولا تحل مشكلة عملية؟ الإجابة ببساطة: لأن الأدب لا يطعمنا خبزاً، بل يذكرنا بأننا لسنا آلات. إنه مقاومة وجودية ضد الاغتراب الذي تفرضه علاقات السوق وصراعات الحياة المادية.

السبب الأول: الأدب كآلة زمن.. ونافذة على الآخر

الأدب هو الاختراع الوحيد الذي يمنحنا إمكانية العيش في أكثر من حياة واحدة، في أكثر من عصر، وأكثر من جسد.

  • التعاطف كتمرين إنساني: عندما نقرأ “البؤساء” لفيكتور هوغو، لا نتعاطف مع جان فالجان فحسب، بل نعيش معاناة الفقر والظلم. عندما نغوص في “ألف ليلة وليلة”، نرى العالم بعيون شهرزاد. الأدب هو الجسر الأقوى towards فهم “الآخر” المختلف عنا في الثقافة، الجنس، الدين، أو الطبقة الاجتماعية.
  • ذاكرة البشرية الجمعية: النصوص الأدبية، من الملاحم القديمة إلى الروايات المعاصرة، هي السجل الأكثر ثراءً لتجارب البشرية مع الحب، الحرب، الخيانة، والموت. هي ليست مجرد حكايات، بل هي أرشيف للروح الإنسانية.

السبب الثاني: مواجهة التعقيد.. لا تبحث عن إجابات جاهزة

بينما تقدم لنا وسائل الإعلام وخطابات السياسة عالماً مبسطاً (أبيض/أسود، خير/شر)، يقدم لنا الأدب عالماً معقداً، غامضاً، ومليئاً بالتدرجات الرمادية.

  • تفكيك اليقينيات: الشخصية الأدبية الجيدة ليست بطلاً خارقاً ولا شريراً متجسدا. هي كائن معقد، تحمل تناقضاتها كأي إنسان حقيقي. هذا يعلمنا التسامح مع تناقضاتنا وتناقضات الآخرين.
  • الأسئلة التي لا تنتهي: الأدب الجيد لا يقدم إجابات، بل يطرح أسئلة عظيمة. رواية “الغريب” لألبير كامو لا تخبرنا ما معنى الحياة، بل تجعلنا نطرح السؤال بأنفسنا. هذا التمرين الفلسفي هو ما يصنع وعياً نقدياً حقيقياً.

السبب الثالث: اللغة كحجر أساس للوجود

في زمن الانزياح towards لغة الإنترنت المبتسرة (الإيموجي، والاختصارات)، يصبح الأدب الحصن الأخير للغة الغنية، العميقة، والمشبّة بالاستعارات.

  • استعادة جمال الكلمة: الأدب يذكرنا بأن اللغة ليست مجرد وسيلة اتصال، بل هي وعاء الفكر والشعور. جماليات اللغة في الشعر والنثر تثري مخيلتنا وتوسع من قدرتنا على التعبير عن أنفسنا.
  • المقاومة بالكلمة: في ظل محاولات تدمير اللغة وتجهيلها، تصبح القراءة فعل مقاومة. فهي تحافظ على الذائقة الجمالية وتصقل القدرة على التمييز بين الخطاب الرصين والخطاب الرخو.

النقد: هل أصبح الأدب ترفاً؟

نعم، قد يبدو الأدب ترفاً في مجتمعات تكافح من أجل لقمة العيش. ولكن هذه هي المفارقة الكبرى: كلما اشتدت الأزمات، ازدادت حاجتنا إلى الأدب. في السجون، في زمن الحروب، تحت وطأة القمع، يلجأ البشر إلى القصيدة، إلى الرواية، لأنها تمنحهم معنى في عالم فقد معناه. الأدب ليس هروباً من الواقع، بل هو وسيلة أعمق لمواجهته. هو ليس رفاهية، بل هو ضرورة كالهواء والماء، لأنه يغذي الجزء منا الذي يجعلنا بشراً.

خاتمة: القراءة كفعل حرية أخير

في النهاية، نقرأ الأدب لأننا كائنات تبحث عن المعنى. لأن حياتنا الواحدة ضيقة جداً compared to الأسئلة الكبيرة التي تؤرقنا. الأدب يوسع منا، يعمقنا، ويجعلنا أقل وحدة في كون شاسع. في لحظة القراءة، نختبر حرية مطلقة: حرية الدخول إلى عقل إنسان آخر، وحرية مشاركته في أسئلته الوجودية. هذه هي آخر الحريات التي لا يمكن لأحد أن يسلبنا إياها. نقرأ الأدب، باختصار، لنعيش أكثر من حياة واحدة، ولنموت مرة واحدة فقط.

اترك تعليقا

زر العودة إلى الأعلى

اشترك في نشرتنا الإخبارية

هل تريد أن تكون على اطلاع بآخر الصيحات؟ اشترك في مدونتنا وكن أول من يتلقى أحدث الأخبار من جميع أنحاء العالم!

Whoops, you're not connected to Mailchimp. You need to enter a valid Mailchimp API key.

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) لتحسين تجربة التصفح الخاصة بك وتقديم محتوى مخصص لك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا، فإنك توافق على سياسة الكوكيز الخاصة بنا.