المترجم شريك الكاتب أم مؤلف جديد

في عالم الأدب، يقف المترجم دائمًا في منطقة رمادية بين الكاتب والقارئ.
هو لا يكتب النص من البداية، لكنه أيضًا لا يكتفي بنقله حرفيًا.
عمله يحتاج إلى خيال الكاتب ودقّة العالم اللغوي.
وهنا يطرح السؤال نفسه بقوة: هل المترجم مجرد شريك للكاتب، أم أنه مؤلف جديد للنص بلغته الثانية؟


المترجم شريك في المعنى

الكاتب يخلق الفكرة.
المترجم يمنحها حياة جديدة في لغة أخرى.
بدون المترجم، يظل النص حبيس لغته الأولى.

المترجم الجيد يفهم عقل الكاتب وروحه. يعرف متى يلتزم، ومتى يتصرف.
دراسة منشورة في Translation Studies Quarterly تشير إلى أن الترجمة الأدبية الدقيقة تحتاج إلى “وعي أسلوبي عميق” يجعل المترجم يكتب كما لو كان يعيش داخل النص الأصلي نفسه.

بهذا المعنى، المترجم ليس تابعًا، بل شريك في صناعة المعنى.


المترجم مؤلف من نوع آخر

كل ترجمة هي إعادة كتابة.
النص لا ينتقل كما هو، بل يتغيّر أثناء عبوره من لغة إلى أخرى.

حين ترجم صلاح عبد الصبور مسرحيات شكسبير، لم يكتفِ بالنقل اللغوي، بل أضاف لمساته الشعرية التي جعلت النص أقرب إلى روح القارئ العربي.
وحين ترجم خليل مطران “الإلياذة”، أعاد بناءها بوزن عربي وإيقاع عربي.
في تلك اللحظة، صار المترجم مؤلفًا جديدًا للنص بلغته.

الناقد الفرنسي أنطوان برمان وصف الترجمة بأنها “عملية ولادة جديدة للنص”، لأن النص لا يُعاد نقله بل يُعاد خلقه داخل منظومة ثقافية مختلفة.


أين يقف الحد بين الأمانة والإبداع؟

الحد الفاصل دقيق جدًا.
إذا بالغ المترجم في التصرّف، ضاع النص الأصلي.
وإذا التزم حرفيًا، مات النص لغويًا وثقافيًا.

المترجم الحقيقي هو من يحافظ على نية الكاتب، لكنه يكتب بلغته كما لو كانت لغته الأم.
هو من يوازن بين الوفاء للكاتب والصدق مع القارئ.


القارئ لا يقرأ الكاتب بل المترجم

الواقع أن القارئ العربي لم يقرأ “دوستويفسكي” كما كتبه الروسي، بل كما فهمه وترجمه صبحي الجابي.
ولم يقرأ “ماركيز” الإسباني، بل قرأه عبر عدسة صالح علماني.

كل مترجم يترك بصمته، وصوته، وذوقه في النص.
ولهذا تختلف ترجمات العمل الواحد أحيانًا اختلافًا كبيرًا، رغم أنها لنص واحد.

الكاتب يضع حجر الأساس، والمترجم يبني الباقي بطريقته الخاصة.


المترجم صانع الجسر الثقافي

من دون الترجمة، لا يوجد أدب عالمي.
والمترجم هو الذي يمدّ هذا الجسر بين الأمم.

ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية على يد أنطوان جالان غيّرت نظرة أوروبا إلى الشرق.
وترجمة هارولد بيدن لأعمال طه حسين فتحت الأدب العربي أمام القارئ الغربي لأول مرة.

كل ترجمة ناجحة تخلق صورة جديدة لثقافة بأكملها.


الخلاصة

المترجم ليس ظل الكاتب ولا مجرد ناقل.
هو مؤلف يكتب النص من جديد، لكن بأدوات أخرى.
هو من يعيد توزيع الضوء والظل على لوحة الكاتب الأصلية.

في الأدب، الكاتب يبدأ القصة، لكن المترجم هو من يمنحها الخلود.


المراجع

  • Antoine Berman, The Experience of the Foreign, SUNY Press
  • Translation Studies Quarterly, Issue 41, “Rewriting and Authorship in Translation”
  • Lawrence Venuti, The Translator’s Invisibility, Routledge

اترك تعليقا

زر العودة إلى الأعلى

اشترك في نشرتنا الإخبارية

هل تريد أن تكون على اطلاع بآخر الصيحات؟ اشترك في مدونتنا وكن أول من يتلقى أحدث الأخبار من جميع أنحاء العالم!

Whoops, you're not connected to Mailchimp. You need to enter a valid Mailchimp API key.

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) لتحسين تجربة التصفح الخاصة بك وتقديم محتوى مخصص لك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا، فإنك توافق على سياسة الكوكيز الخاصة بنا.