الاستعمار لم يترك أثره في السياسة والاقتصاد فقط، بل تسلل إلى الوجدان والثقافة واللغة.
والسرد العربي، بصفته ذاكرة المجتمع، كان الساحة التي انعكست فيها آثار الاحتلال، والصراع من أجل التحرر، وإعادة تعريف الهوية.
بداية التحول
قبل الاستعمار، كان الأدب العربي يعتمد على السرد الكلاسيكي المتأثر بالمقامات والسير الشعبية.
لكن مع دخول القوى الاستعمارية الأوروبية إلى العالم العربي في القرن التاسع عشر، تغيرت البنية الاجتماعية والفكرية.
ظهرت النهضة، وتغيّر مفهوم الكتابة من الحكاية للمتعة إلى الحكاية للفهم والمقاومة.
الرواية الحديثة وُلدت في هذا المناخ بوصفها أداة لتفسير الواقع الجديد.
السرد كأداة مقاومة
الروائي العربي لم يقف متفرجًا أمام الاحتلال.
تحولت الرواية إلى مساحة للمقاومة والتعبير عن الرفض.
في مصر، استخدم نجيب محفوظ في أعماله الأولى رموزًا سياسية واجتماعية لفضح آثار الاستعمار البريطاني.
في الجزائر، كتب الطاهر وطار ومالك حداد عن صراع الهوية بين العربية والفرنسية بعد الاحتلال الفرنسي.
أما في فلسطين، فجاء غسان كنفاني ليحوّل النكبة إلى ذاكرة جمعية في روايات مثل رجال في الشمس وعائد إلى حيفا.
الصراع اللغوي والهوياتي
أخطر ما فعله الاستعمار أنه حاول إزاحة اللغة العربية واستبدالها بلغة المستعمر.
أدى ذلك إلى انقسام ثقافي بين النخب المتفرنسة والجماهير الشعبية.
الكتّاب استخدموا السرد لاستعادة اللغة كهوية.
فأصبحت الرواية العربية معركة رمزية ضد محو الذاكرة.
من الحكاية الوطنية إلى الوعي الإنساني
بعد الاستقلال، لم يتوقف تأثير الاستعمار.
الروائيون الجدد مثل عبد الرحمن منيف وإلياس خوري والطيب صالح بدأوا في تحليل ما بعد الاستعمار، أي كيف ترك الاحتلال آثاره في النفوس والبُنى الاجتماعية.
رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح مثال واضح على هذا الصراع بين الشرق والغرب، بين الذات والآخر.
السرد العربي كتوثيق للجرح
السرد العربي اليوم لا يزال يحمل آثار تلك التجربة.
من خلال القصص عن المنفى، الاغتراب، وفقدان الهوية، نحس أن الاستعمار لم ينته فعليًا، بل تحوّل إلى أشكال ثقافية واقتصادية جديدة.
الرواية العربية لم تكتف بتسجيل الاحتلال، بل حللته، وواجهته، وأعادت صياغة الذات العربية من جديد.
بهذا أصبحت الرواية أكثر من فن، صارت سلاحًا ضد النسيان، وضد التبعية، وضد فقدان المعنى.
سؤال للتفكير
هل انتهى الاستعمار فعلًا في الأدب العربي، أم ما زال يعيش بين السطور؟


