الترجمة الأدبية كجسر بين الحضارات

الأدب لا يعيش في عزلة.
كل حضارة تحتاج أن ترى نفسها في مرآة الآخرين.
والترجمة هي تلك المرآة.

منذ فجر التاريخ، لعبت الترجمة دور الوسيط بين الثقافات.
في بيت الحكمة ببغداد، تُرجمت كتب الفلسفة والطب من اليونانية إلى العربية،
فانبثق عصر ذهبي من المعرفة.
ثم انتقلت هذه الترجمات إلى اللاتينية،
فكانت الشرارة التي أنارت أوروبا في عصورها الوسطى.

الترجمة ليست نقلًا لغويًا.
هي فعل حضاري، يفتح طريقًا للتبادل بين العقول.
بفضلها، تعرّف العرب على أرسطو وأفلاطون،
وتعرّف الأوروبيون على ابن سينا وابن رشد والمتنبي.

كل كتاب يُترجم يضيف خيطًا جديدًا في نسيج الإنسانية.
حين تُقرأ “ألف ليلة وليلة” في باريس،
أو “الجريمة والعقاب” في القاهرة،
فهذا يعني أن الترجمة جعلت الإنسان يفهم الإنسان،
مهما اختلفت لغته أو مكانه.

المترجم هنا ليس مجرد وسيط.
هو جسر حيّ يحمل المعنى من ضفة إلى ضفة.
ينقل الرؤية، ويعيد بناء الصورة بما يفهمه المتلقي دون أن يفقد روح الأصل.

الأدب المترجم غيّر شكل العالم.
من خلاله انتقلت الثورة الفكرية من الشرق إلى الغرب والعكس.
عرف العالم من خلاله نجيب محفوظ وغسان كنفاني،
كما عرفنا نحن تولستوي وشكسبير وماركيز.

لكن الترجمة ليست بلا تحديات.
فكل نص يحمل في طياته خصوصية لغوية وثقافية،
والمترجم يواجه دائمًا سؤال الهوية:
كيف ينقل المعنى دون أن يذيب الذات في الآخر؟

رغم ذلك، تبقى الترجمة الأدبية أنبل وسيلة للتقارب الإنساني.
هي التي تُسقط الحواجز بين الأمم،
وتجعل الحوار بين الحضارات ممكنًا لا نظريًا.

كلما قرأت كتابًا مترجمًا، أنت تشارك في هذا الجسر.
تمد يدك إلى كاتب من مكان بعيد،
وتتبادل معه الحكايات والأحلام والخبرات.
وهكذا تظل الترجمة الأدبية واحدة من أعظم إنجازات الإنسان في تاريخه.

المراجع:

Exit mobile version