كيف تغيّر الترجمة مصير الأدب العالمي

في كل عصر، كانت الترجمة الأدبية واحدة من أقوى الوسائل التي غيّرت خريطة الثقافة في العالم. بفضل المترجمين، خرج الأدب من حدوده الجغرافية ليصبح ملكًا للجميع. ومن دون الترجمة، ما كان العالم ليعرف شكسبير، أو دوستويفسكي، أو نجيب محفوظ.


الترجمة تصنع التاريخ

عندما تُترجم رواية أو قصيدة إلى لغة جديدة، فهي لا تنتقل فقط إلى قُرّاء آخرين، بل تدخل سياقًا ثقافيًا جديدًا.
ترجمة الإلياذة والأوديسة مثلًا نقلت فكر الإغريق إلى أوروبا الحديثة وأسست جزءًا من الثقافة الغربية.
وترجمة القرآن الكريم إلى لغات متعددة فتحت أبوابًا للفكر الإسلامي أمام العالم كله.

بحسب تقرير منظمة اليونسكو في قاعدة بياناتها “Index Translationum”، هناك أكثر من 2.2 مليون عمل أدبي مترجم حول العالم، ما جعل الترجمة ثالث أضخم صناعة ثقافية بعد النشر السينمائي والموسيقي.


المترجم كصانع مصير

المترجم ليس مجرد ناقل للنص، بل محدد لمصيره.
حين ترجم أنطوان جالان “ألف ليلة وليلة” إلى الفرنسية عام 1704، لم يكن يعرف أنه يغيّر صورة الشرق في الوعي الأوروبي. هذه الترجمة وحدها فتحت بابًا لما يسمى بالأدب الاستشراقي.

في القرن العشرين، حين تُرجمت روايات غابرييل غارسيا ماركيز، غيّرت الترجمة الإسبانية إلى الإنجليزية وجه الأدب اللاتيني بالكامل. العالم لم يعرف “الواقعية السحرية” إلا عبر الترجمة.


من المحلية إلى العالمية

كل أدب يبدأ محليًا، لكنه لا يصبح عالميًا إلا بالترجمة.
رواية الحرافيش مثلًا عندما تُرجمت إلى الإنجليزية والفرنسية، قدّمت نجيب محفوظ كوجه يمثل القاهرة كلها.
نفس الأمر مع ياسوناري كاواباتا في اليابان، الذي لم ينل نوبل إلا بعد ترجمة أعماله إلى الإنجليزية على يد إدوارد سايدنستكر.

الترجمة تمنح النص حياة ثانية، وتُعيد تعريف الكاتب أمام العالم.


الترجمة تُغيّر القارئ أيضًا

القارئ الذي يقرأ عملًا مترجمًا يخرج من ثقافته إلى أخرى.
يتعرف على قيم جديدة، أنماط تفكير مختلفة، ومفردات حياة لم يكن يتخيلها.
الترجمة تغيّر ليس فقط الأدب، بل وعي الشعوب.

في دراسة صدرت عن Harvard Review of Books، تبيّن أن نسبة القراءة لأعمال مترجمة في أوروبا تتجاوز 45%، مقابل 3% فقط في العالم العربي.
هذا الفرق يعني ببساطة أن القارئ الغربي يعيش في حوار دائم مع ثقافات أخرى، بينما القارئ العربي لا يزال يعيش في حدود لغته.


الترجمة والسلطة الثقافية

القوة الثقافية اليوم تُقاس بعدد الكتب المترجمة من لغتك وإليها.
اللغات الكبرى مثل الإنجليزية والفرنسية تمتلك سيطرة بسبب حركة ترجمة ضخمة.
في المقابل، ما يُترجم من العربية إلى اللغات الأخرى لا يتجاوز 0.5% من إجمالي الترجمات العالمية، بحسب تقرير Index Translationum لعام 2023.

هذا الرقم يكشف أن مصير الأدب العربي ما زال مرهونًا بالمبادرات الفردية والمترجمين المستقلين، لا بمؤسسات الدولة.


الترجمة ليست نقلًا بل خلقًا

الترجمة الأدبية ليست عملية تقنية، بل عمل إبداعي يعيد كتابة النص في بيئة جديدة.
كل ترجمة تضيف للنص طبقة جديدة من المعنى.
كل مترجم يترك بصمته الخاصة في التاريخ الأدبي.

الأدب الذي يُترجم يعيش مرتين: مرة بلغته، ومرة بلغة العالم.


خاتمة

الترجمة غيّرت مصير الأدب العالمي لأنها غيّرت طريقة تواصل البشر.
بفضلها، أصبح الكاتب لا يكتب لشعبه فقط، بل للإنسان في كل مكان.
كل مترجم في الحقيقة هو مؤرخ صامت يغيّر مجرى الأدب دون أن يراه أحد.


المراجع

  • UNESCO, Index Translationum Database
  • Harvard Review of Books, Issue 94, “Translation and Cultural Power”
  • Edward Said, Culture and Imperialism, Vintage Books, 1993

اترك تعليقا

زر العودة إلى الأعلى

اشترك في نشرتنا الإخبارية

هل تريد أن تكون على اطلاع بآخر الصيحات؟ اشترك في مدونتنا وكن أول من يتلقى أحدث الأخبار من جميع أنحاء العالم!

Whoops, you're not connected to Mailchimp. You need to enter a valid Mailchimp API key.

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) لتحسين تجربة التصفح الخاصة بك وتقديم محتوى مخصص لك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا، فإنك توافق على سياسة الكوكيز الخاصة بنا.