الواقعية ليست مجرد اتجاه أدبي، بل رؤية للحياة.
هي محاولة لفهم الإنسان من خلال الواقع الذي يعيش فيه، لا الهروب منه.
من هنا، نشأ السؤال الدائم في الأدب الحديث:
هل الواقعية التزام فني بالجمال أم انعكاس اجتماعي للواقع؟
الواقعية كالتزام فني
الواقعية في جوهرها فن قبل أن تكون موقفاً.
الكاتب الواقعي لا ينسخ الواقع كما هو، بل يعيد تشكيله بلغة الفن.
يختار التفاصيل، يعيد ترتيب الأحداث، يسلّط الضوء على ما يكشف المعنى.
نجيب محفوظ نموذج واضح لهذا الاتجاه.
رواياته لم تكن تقارير اجتماعية، بل لوحات فنية.
في “زقاق المدق” و“اللص والكلاب” و“بداية ونهاية”، رسم شخصيات من قلب المجتمع المصري، لكنه جعلها رموزاً للصراع الإنساني العام.
هذا ما يجعل الواقعية فناً: أن تعبر عن الواقع دون أن تذوب فيه.
الالتزام الفني يعني أن الكاتب لا يترك القيم الجمالية.
اللغة يجب أن تكون دقيقة.
البناء السردي يجب أن يكون متماسكاً.
الشخصيات يجب أن تتحرك بعمق، لا بسطحية.
الواقعية لا تبرر الضعف الفني، بل تتطلب مهارة أكبر في تحويل الواقع إلى فن.
الواقعية كانعكاس اجتماعي
الواقعية أيضاً مرآة للمجتمع.
الكاتب لا يعيش في فراغ.
يرى الفقر، الظلم، الصراع الطبقي، السلطة، الأحلام الضائعة.
الأدب الواقعي ينقل هذه الظواهر ليكشف أسبابها، لا ليتوقف عندها.
في القرن العشرين، تحولت الرواية الواقعية إلى وثيقة اجتماعية.
روايات مثل “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي أو “الحي اللاتيني” لسهيل إدريس لم تكتفِ بالتصوير، بل ناقشت قضايا التغيير الاجتماعي والسياسي والفكري.
الكاتب الواقعي يشعر بالمسؤولية تجاه مجتمعه، فيكتب ليكشف، لا ليمجّد.
لكن خطر الواقعية الاجتماعية هو السقوط في الخطابية أو المباشرة.
حين يتحول النص إلى منشور سياسي، يفقد الأدب روحه.
الكاتب الواقعي الناجح هو من يوازن بين الصدق الاجتماعي والجمال الفني.
الواقعية بين الجانبين
الواقعية الفنية والواقعية الاجتماعية ليستا ضدين.
هما وجهان لعملة واحدة.
الفن بلا وعي اجتماعي يصبح شكلاً فارغاً.
والوعي الاجتماعي بلا فن يصبح تقريراً بارداً.
الأدب الواقعي العظيم يجمع بين الحس الجمالي والنقد الاجتماعي.
يجعل القارئ يشعر بالجمال وهو يرى القبح، ويفكر في التغيير وهو يعيش الحكاية.
لهذا تبقى روايات مثل “الثلاثية” و“الأم” و“البؤساء” خالدة، لأنها لم تنفصل عن الإنسان.
الواقعية ليست مجرد نقل للواقع، ولا مجرد فن للزينة.
هي موقف فكري وجمالي في آن واحد.
الكاتب الواقعي الحقيقي هو من يخلق من الواقع فناً ومن الفن وعياً.
الالتزام الفني يحفظ الجمال.
الانعكاس الاجتماعي يمنح المعنى.
ومن التقاء الاثنين، تولد الرواية التي تغيّر الوعي لا المزاج.
